ليلة القدر المباركة في شهر رمضان

 بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى :{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}.

هذه السورة العظيمة تبين أن لليلة القدر شأنًا عظيمًا، ففيها أَنزل الله تبارك وتعالى القرءان أي أمر جبريل عليه السلام فأخذ جبريل القرءان من الذّكر أي اللوح المحفوظ فنزل به إلى مكان في السماء الدنيا يسمى « بيت العزة » دفعة واحدة. فعن وائلة بن الأسقع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : »أُنزلت التوراة لست مضين من رمضان وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل القرءان لأربع وعشرين خلت من رمضان ». فمن الآية {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وهذا الحديث يعلم أن القرءان أنزل ليلة الرابع والعشرين من رمضان وكانت تلك الليلة ليلة القدر فإنّه ليس من المحتّم أن تكون ليلة سبع وعشرين أو تسع وعشرين إنما الغالب أن تكون كذلك.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : »فالتمسوها في العشر الأواخر » أي لأن الغالب أن تكون في العشر الأواخر وليس لأنه لا تكون إلا فيه وإلا فإنها قد تصادف الليلة الأولى أو الثانية أو غيرهما، والحكمة من إخفائها كي يتحقق اجتهاد العباد في ليالي رمضان كلها طمعًا منهم في إدراكها، ثم من بيت العزة صار ينزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم متفرقًا على حسب الأسباب والحوادث، فأول ما نزل منه كان في غد تلك الليلة نزل خمس ءايات من سورة العلق. ولم يكن نزول القرءان على حسب الترتيب الموجود الآن، إنما بعد ما تمّ نزول القرءان على النبي أي بعد نحو ثلاث وعشرين سنة من الوحي علّم الرسولُ أصحابه قراءة القرءان على هذا الترتيب ولم يكن ذلك باجتهاد منهم.

ثم عظم الله أمرَ ليلة القدر فقال {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي أن لليلة القدر شأنًا عظيمًا وبين أنها خير من ألف شهر فقال :{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي أن العمل الصالح فيها يكون ذا قدر عند الله تعالى خيرًا من العمل في ألف شهر. ومن حصل له رؤية شىء من علامات ليلة القدر يقظة فقد حصل له رؤيتها، ومن علاماتها رؤية نور خلقه الله تعالى غير نور الشمس والقمر والكهرباء، أو رؤية الأشجار ساجدة أو طلوع الشمس صبيحتها لطيفة أو سماع صوت الملائكة ومصافحتهم أو رؤيتهم على أشكالهم الأصلية ذوي أجنحة مثنى وثلاث ورباع أو أكثر من ذلك فإن لجبريل عليه السلام ستمائة جناح، ومن رءاها في المنام دل ذلك على خير لكنه أقلّ من رؤيتها يقظة،

ومن لم يرها لا منامًا ولا يقظة واجتهد في القيام والطاعة وصادف تلك الليلة نال من عظيم بركاتها فضل ثواب العبادة تلك الليلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : »من قامَ ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدَّم من ذنبه » رواه البخاريّ.

وقيام ليلة القدر يحصل بالصلاة فيها إن كان عدد الركعات قليلاً أو كثيرًا، وإطالة الصلاة بالقراءة أفضل من تكثير السجود مع تقليل القراءة، ومن يسَّر الله له أن يدعو بدعوة في وقت ساعة رؤيتها كان ذلك علامة الإجابة، فكم من أناس سعدوا من حصول مطالبهم التي دعوا الله بها في هذه الليلة ثم قال الله :{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : »إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كَبْكَبَة (أي جماعة) من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله فينزلون من لَدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر » فينزلون بكل أمر قضاه الله في تلك السنة من أرزاق العباد وءاجالهم إلى قابل، وليس الأمر كما شاع بين كثير من الناس من أن ليلة النصف من شعبان هي الليلة التي توزع فيها الأرزاق والتي يبين فيها ويفصل من يموت ومن يولد في هذه المدة إلى غير ذلك من التفاصيل من حوادث البشر بل تلك الليلة هي ليلة القدر كما قال ابن عباس ترجمان القرءان رضي الله عنه فإنه قال في قوله تعالى :{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} هي ليلة القدر،

ففيها أنزل القرءان وفيها يفرق كل أمر حكيم أي كل أمر مُبْرَم أي أنه يكون فيها تقسيم القضايا التي تحدث للعالم من موت وصحة ومرض وغنى وفقر وغير ذلك مما يطرأ على البشر من الأحوال المختلفة من هذه الليلة إلى مثلها من العام القابل. ثم قال الله تعالى :{سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} فليلة القدر سلام وخير على أولياء الله وأهل طاعته المؤمنين ولا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو أذى، وتدوم تلك السلامة حتى مطلع الفجر. عن عائشة رضي الله عنها قالت : »قلت يا رسول الله إن علمت ليلة ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنّك عفوّ تحب العفوَ فاعفُ عنّي » وكان أكثر دعاء النبي في رمضان وغيره : »ربّنا ءاتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار ». والحمد لله رب العالمين.

Commentaires